الأحد، 27 فبراير 2011

حكم استعمال السبحة

يقول الشيخ الدكتور بكر أبو زيد رحمه الله تعالى في معرض كلامه عن السبجة -تاريخها وحكمها:

لا يستريب منصف أن اتخاذ السُّبْحَةِ لتعداد الأَذكار: تشبه بالكفار, وبدعة مضافة في التعبد بالأَذكار والأوراد, وعدول عن الوسيلة المشروعة: ((العَدَّ بالأنامل)) التي دَلَّ عليها النبي صلى الله عليه وسلم بقوله وفعله, وتوارثه المهتدون بهديه المقتفون لأَثره إلى يومنا هذا, وإلى هديه عليه الصلاة والسلام يُرد أمر الخلاف, وبه يتحرر الصحيح عند النزاع وإضافة إلى ذلك فإن فقهاء المذاهب المتبوعة لا يتنازعون في أن العد بالأنامل أفضل من العد بغيرها من الحصى ونحوه منثوراً أو منظوما، وأنه إذا انضاف إلى السُّبْحة أمر زائد غير مشروع, مثل جعلها في الأعناق تعبداً, والتغالي فيها من أنها حبل الوصل إلى الله, ودخول أي معتقد نفعاً وضراً, وإظهار التنسك والزهادة, إلى غير ذلك مما يأباه الشرع المطهر, فإنه يحرم اتخاذها, بوجه أشد, وأضيف هنا أمرين مهمين:
أولهما: أقول فيه: إن من وقف على تاريخ اتخاذ السبحة, وأنها من شعائر الكفار من البوذيين, والهندوس, والنصارى, وغيرهم وأنها تسربت إلى المسلمين من معابدهم؛ علم أنها من خصوصيات معابد الكفرة, وأن اتخاذ المسلم لها وسيلة للعبادة, بدعة ضلالة, وهذا ظاهر بحمد الله تعالى .
وهذا أهم مَدْرَكٍ لِلْحُكْم على السُّبْحَة بالبدعة, لم أر من تعرض له من المتقدمين سوى الشيخ محمد رشيد رضا – رحمه الله تعالى – فمن بعده من أصحاب دوائر المعارف فمن بعدهم, ولو تبين لهم هذا الوجه لما قرر أحد منهم الجواز, كما هو الجاري في تقريراتهم في الأحكام, التي تحقق مناط المنع فيها: التشبه .
وثانيها: قال الغلاة في اتخاذ السُّبْحَة: ((إن العقد بالأنامل إنما يتيسر في الأذكار القليلة من ((المائة)) فَدُوْن, أما أهل الأوراد الكثيرة, والأذكار المتصلة, فلو عدوا بأصابعهم لدخلهم الغلط, واستولى عليهم الشغل بالأصابع, وهذه حكمة اتخاذ السُبحة.
أقول: ليس في الشرع المطهر أكثر من ((المائة)) في عدد الذكر المقيد بحال, أو زمان, أو مكان, وما سوى المقيد فهو من الذكر المطلق, والله سبحانه وتعالى يقول: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا ﴾ [الأحزاب / 41]। إلى غيرها من الآيات, كما في: [آل عمران / 41, والأنفال / 45, والأحزاب / 35]। فتوظيف الإِنسان على نفسه ذكراً مقيداً بعدد لم يأمر الله به ولا رسوله صلى الله عليه وسلم هو: زيادة على المشروع, ونفس المؤمن لا تشبع من الخير, وكثرة الدعاء والذكر, وهذا الأمر المطلق من فضل الله على عباده في حدود ما شرعه الله من الأدعية والأذكار المطلقة, بلا عدد معين, كل حسب طاقته ووُسعِه, وفَرَاغه, وهذا من تيسير الله على عباده, ورحمته بهم। وانظر: لَمَّا ألزم الطرقية أنفسهم بأعداد لا دليل على تحديدها؛ وَلَّدَ لَهُمْ هذا الإِحداث بِدَعاً من اتخاذ السُّبَح, وإلزام أنفسهم بها, واتخاذها شعاراً وتعليقها في الأعناق, واعتقادات متنوعة فيها رغباً, ورهباً, والغلو في اتخاذها, حتى ناءت بحملها الأبدان, فَعُلِّقَتْ بالسقوف, والجدران, وَوُقِّفَت الوقوف على العَادِّين بها, وانْقَسَمَ المتعبدون في اتخاذها: نوعاً وكيفيةً, وزماناً ومكاناً, وعدداً, ثم تطورت إلى آلة حديدية مصنعة, إلى آخر ما هنالك مما يأباه الله ورسوله والمؤمنون। فعلى كل عبد ناصح لنفسه أن يتجرد من الإِحداث في الدين, وأن يقصر نفسه على التأسي بخاتم الأنبياء والمرسلين, وصحابته – رضي الله عنهم – فَدَع السُّبْحَة يا عبد الله, وتَأَسَّ بنبيك محمد صلى الله عليه وسلم في عدد الذكر المقيد, ووسيلة العد بالأنامل, وداوم على ذكر الله كثيراً كثيراً دون التقيد بعدد لم يدل عليه الشرع, واحرص على جوامع الذكر, وجوامع الدعاء। وَلاَ تَغْتَرَّ باتخاذ بعض الأئمة الكبار لها, أمثال الحافظ ابن حجر العسقلاني – رحمه الله تعالى – فإن الإِلْفَ والعادة لهما شأن كبير؛ إذ العادة مَلاَّكَة, والعوائد والأعراف تبني أصولاً, وتهدم أصولاً, والمعول على الدليل, وسلامة التعليل, وقواعد التشريع, وانظر كيف غلط أئمة كبار في أبواب التوحيد – مع جلالة قدرهم وعلو شأنهم – وما هذا إلا بحكم النشأة والأجواء المحيطة بهم, شيوخاً وتلاميذ وعامة, مع ضعف التجديد لهذا الدين, نسأل الله أن يغفر لنا ولهم, وأن يجمعنا بهم في جنته, آمين। وعلى المسلم الناصح لنفسه, أن لا يستوحش من هذا الحكم؛ لاستيلاء الإِلْفِ والعادة, ومستحدث رسوم التصوف ووظائف الزهادة, وأن يكون ديدنه الاكتفاء بهدي خاتم الرسل والأنبياء صلى الله عليه وسلم وأن لا يقدم بين يديه وليجة أخرى. وأختم هذا التحقيق بفصل عقده ابن الحاج – رحمه الله تعالى – في: ((المدخل: 3 / 214- 215)) فقال: ((فصل: ومن هذا الباب أيضاً ما يفعله بعضهم من تعليق السبحة في عنقه. وقد تقدم قول عمر رضي الله عنه لتميم الداريّ رضي الله عنه: أنت تريد أن تقول: أنا تميم الداري فاعرفوني. وما كان مراده إلا أن يذكّر الناس بالأحكام الشرعية المأمور بإظهارها وإشاعتها, وإظهار السبحة والتزين بها لا مدخل لهما في ذلك, بل للشهرة والبدعة لغير ضرورة شرعية. وقريب من هذا ما يفعله بعض من ينتسب إلى العلم فيتخذ السبحة في يده كاتخاذ المرأة السوار في يدها, ويلازمها, وهو في ذلك يتحدَّث مع الناس في مسائل العلم وغيرها, ويرفع يده ويحركها في ذراعه. وبعضهم يمسكها في يده ظاهرة للناس ينقلها واحدة واحدة كأنه يعدّ ما يذكر عليها, وهو يتكلم مع الناس في القيل والقال وما جرى لفلان وما جرى على فلان, ومعلوم أنه ليس له إلا لسان واحد, فعدّه على السبحة على هذا باطل, إذ إنه ليس له لسان آخر حتى يكون بهذا اللسان يذكر واللسان الآخر يتكلم به فيما يختار, فلم يبق إلا أن يكون اتخاذها على هذه الصفة من الشهرة والرياء والبدعة. ثم العجب ممن يعدّ عَلَى السبحة حقيقة ويحصر ما يحصله من الحسنات, ولا يعد ما اجترحه من السيئات! وقد قال عليه الصلاة والسلام: ((حَاسِبُوا أنْفُسَكُمْ قَبْلَ أَنْ تُحَاسَبُوا))فأرشد عليه الصلاة والسلام إلى محاسبة المرء لنفسه فيما يتصرف فيه باعتقاده وجوارحه, ويعرض ذلك كله على السنة المطهرة, فما وافق من ذلك حمد الله عز وجل وأثنى عليه, وبقي خائفاً وجلاً خشية من دسائس وقعت له لم يشعر بها, وما لم يوافق احتسب المصيبة في ذلك, ورجع إلى الله تعالى بالتوبة والإِقلاع, فلعل بركة التوبة تمحو الحوبة وينجبر بذلك ما وقع له من الخلل, وهذه الطائفة أصل عملها التحفظ من السيئات والهواجس والخواطر, ثم بعد ذلك يأخذ في كسب الحسنات। وقد قالوا: إن ترك السيئات أوجب من فعل الحسنات؛ لما في الحديث عنه عليه الصلاة والسلام: ((اتَّقِ المَحَارِمَ تكُنْ أَعْبَدَ النَّاسِ))وقد حُكِي عن بعضهم أنه بكى أربعين سنة, فسئل عن سبب بكائه, فقال: استضافني أخ لي فقدمت له سمكاً فأكل, ثم أخذت تراباً من حائط جار لي فغسل به يديه, فأنا أبكي على ذلك التراب الذي أخذته منذ أربعين سنة। وحُكِي عن آخر مثله فسئل عن ذلك, فقال: طلع لي طلوع فرقيته فاسترحت منه, فأنا أبكي عليه لعدم رضائي بما فعله الله بي, أو كما قال, وأحوالهم في هذا المعنى قلّ أن تنحصر। فإذا كان هذا حالهم في مثل ما وصفناه عنهم فما بالك بمن يحمل الأثقال؟ وأي أثقال؟ ثم يحصر الحسنات ولا يفكر في ضدها فـ (إنا لله وإنا إليه راجعون) ثم إن بعضهم يحتج بأنها محركة ومذكرة, فوا سوأتاه إن لم يكن التحريك والتذكير من القلب فيما بين العبد وبين الرب سبحانه وتعالى, وقد تقدم ما ورد في الحديث: ((إنَّ عَمَل السِّرِّ يَفْضلُ عَمَلَ الجَهْرِ بِسَبْعِينَ ضِعْفاً)) هذا, وهو عمل, فما بالك بإظهار شيء ليس بعمل, وإن كانت صورته صورة عمل؟ وما زال الناس يخفون أعمالهم مع وجود الإِخلاص العظيم منهم, وهو مع ذلك خائفون وجلون من دخول الدسائس عليهم, فأين الحال من الحال؟ فـ (إنا لله وإنا إليه راجعون)। وبالجملة ففعل ذلك فيه من الشهرة ما فيه)) انتهى
هذا في حكم اتخاذ السُّبْحَة لعِدِّ الأَذكار؛ ولذا فإنه تفريعاً على أنها وسيلة محدثة, وبدعة محرمة؛ ولما فيها من التشبه بالكفرة, والاختراع في التعبد؛ فإنه لا يجوز فيما كان سبيلها كذلك تصنيعها, ولا بيعها ولا وقفيتها, ولا إهداؤها وقبولها, ولا تأجير المحل لمن يبيعها؛ لما فيه من الإِعانة على الإِثم, والعدوان على المشروع, والله سبحانه وتعالى يقول: ﴿ وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ ﴾ [المائدة/2] .
وأما استعمالها للتسلي واللعب بها, فخليق بالمسلم الابتعاد عن التشبه بالكفار, وعدم تكثير سواد المبتدعة. قال شيخ الإِسلام ابن تيمية – رحمه الله تعالى – في: ((منهاج السنة النبوية: 4 / 152- 153)) في معرض بيان مطول في النهي عن مشابهة الرافضة: ((فالذي قاله الحنفية وغيرهم, أنه إذا كان عند قوم لا يصلون إِلاَّ عَلَى عَليِّ دون الصحابة, فإِذا صَلَّى عَلى عَلِيِّ ظُنَّ أنه منهم, فيكره لئلا يظن به أنه رافضي, فأما إذا علم أنه صَلَّى عَلَى عَلِيِّ, وعلى سائر الصحابة؛ لم يكره ذلك. وهذا القول يقوله سائر الأئمة, فإنه إذا كان في فعل مستحب مفسدة راجحة لم يصر مستحباً, ومن هنا ذهب من ذهب من الفقهاء إلى ترك بعض المستحبات, إذا صارت شِعاراً لهم, فإنه لم يترك واجباً بذلك, لكن قال: في إظهار ذلك مشابهة لهم, فلا يتميز السني من الرافضي, ومصلحة التمييز عنهم لأَجل هجرانهم ومخالفتهم, أعظم من مصلحة هذا المستحب. وهذا الذي ذهب إليه يُحتاج إليه في بعض المواضع, إذا كان في الاختلاط والاشتباه مفسدة راجحة على مصلحة فعل ذلك المستحب, لكن هذا أمر عارض لا يقتضي أن يجعل المشروع ليس بمشروع دائماً, بل هذا مثل لباس شعار الكفار, وإن كان مباحاً إذا لم يكن شعاراً لهم, كلبس العمامة الصفراء فإنه جائز إذا لم يكن شعاراً لليهود, فإذا صار شعاراً لهم نُهي عن ذلك)) انتهى .
هذا ويكون التحريم للسُبحة أشدّ: إن كانت من ذهب, أو فضة, أو مطلية, أو مموهة بهما, أو بأحدهما, وإن كانت من مادة نجسة, كَعَظم ما لا يؤكل لحمه, فهذا وجه آخر للتحريم مع بطلان الصلاة بها, أي: إن كانت من مادة نجسة كعظم ما لا يؤكل لحمه كالبغال. هذا ومن ضعف الأدب, وقلة الإِحساس: أن تخاطب الشخص وهو يعبث بالسُبحة ويتسلَّى, وأنت مُجْهِدٌ نفسك بإكرامه والحديث معه. وإذا كان: ((السِّوَاك)) يكره في مثل هذه الحال, وهو في أصله مطهرة للفم, مرضاة للرب سبحانه فيكف بالسُّبْحَة التي هي مَذَمَّةٌ في الإِسلام؟ .
هذه خلاصة ما ظهر لي تحقيقه بشأن السُّبْحَة, والله تعالى أعلم .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق